الجمعة، 27 مارس 2020

تطوُّر اللغة



تطوُّر اللغة




 

لا أحد يَخفى عنه أنَّ من سمة اللغات الأبرز التطوُّر، وتطوُّر اللغة هو أن تنحو اللغة إلى التغيير أو التبدُّل، دون إطلاق أحكام معياريَّة عن التطوُّر وطبيعته أو نوعه، وليس بالضرورة أن يكون التطوُّر نحو الأحسن أو الأفضل، وإنَّما هو ضربٌ من التغيير على ما ذكرنا، قد يُلاقي القَبُول والاستحسان، أو يُلاقي الاستهجان.

 

وتطوُّر اللغة بوجه عام شبيهٌ بتطوُّر المجتمعات البشريَّة والحضارات أو الثقافات، وهذا الشبه قائمٌ على أنَّ المجتمعات البشريَّة تتطوَّر وتتغيَّر من حالٍ إلى حال، أو من طَور إلى طور، واللغة كذلك.

 

والدليل على هذا التطوُّر أنَّ اللغة لها طور تُولَد فيه وتنشأ، وطور تزدهر فيه، وآخر تتلاشى فيه أو تضمحلُّ، والدليل على هذا النشوء والاضمحلال، ما نُعاينه في الكثير من اللُّغات أو في أغلب اللُّغات التي نشأت عن أصل ثابت، أو شبه ثابت، وانتهت إلى فرع أو فروع مختلفة، من ذلك مثلًا الفرنسيَّة والإيطاليَّة والإسبانيَّة والبرتغاليَّة التي تعود كلُّها إلى أصل لاتينيٍّ يرجع إلى القرنين الثاني والثالث الميلاديَّين، ومن ذلك العربيَّة أيضًا التي تعود إلى العربيَّة القديمة أو إلى اللغة الساميَّة؛ أي: إلى القرن الرابع قبل الميلاد وأكثر، ومن المعلوم أنَّ اللُّغات الأصل لَمَّا تنشأ عنها فروعٌ أخرى تَضعُف وتتلاشى، وتضمحلُّ أو تموت، وموت اللُّغات ممَّا تشهده أو شهِدته لغات كثيرة، والتاريخ شاهدٌ عليها، وذلك مثل الآشوريَّة والسوماريَّة والفرعونيَّة، والسنسكريتيَّة وغيرها، وموت اللغة يكون باضمحلال المجموعة اللسانيَّة التي تستعمل تلك اللغة، أو بالأحرى بآخِر مَنْ يتكلَّم بها.

 انَّ تطوُّر اللُّغة ليس من السهل رصده وتتبُّعه لأنَّه عمومًا تغيُّر بطيء، وهو ليس تغيُّرًا فرديًّا؛ وإنما هو تغير جماعيٌّ أو اجتماعيٌّ، وهو شبيه بالتغيرات أو التحولات الاجتماعيَّة والاقتصادية التي تجري في صُلْب مجتمع ما، والتي لا تظهر نتائجُها إلا بعد مرور وقت ليس باليسير.

وعندما نتحدَّث عن تطوُّر اللغة، يعنى التطوُّر الحاصل في مظاهرها أو في أحد مستوياتها اللسانيَّة؛ أي: في المستويات الصوتيَّة والصرفيَّة والتركيبيَّة والمعجميَّة الدلاليَّة، ولعلَّ المستويينِ المعجميَّ والصوتيَّ هما اللذان يتَّضِحان أكثر من غيرهما؛ ذلك أنَّ الألفاظ في الاستعمال هي الشائعة، بحكم الحاجة إلى التعبير عن الحاجات ومتطلَّبات الحياة التي لا تنفكُّ تتجدَّد وتتغيَّر باستمرار، وبتغير الحاجات تتغير الكلمات أو الوحدات المعجميَّة، ومن هذه الوحدات المعجميَّة الجديدة المحدث والدخيل والمولد.

 

والتغيير الصوتي بدوره يتعلق بسهولة الاستعمال والخفَّة والحُسْن في نطق الأصوات والتقاطها بالأُذُن، فضلًا عن الاقتصاد في الجُهْد، أو بذل المجهود الأدنى.

 

ولعلَّ التغيير البطيء يتعلق بجلاء في التغيير التركيبي؛ لأن التركيب أقرب إلى الثبات، باعتباره الركيزة الأساسية في نظام اللغة، وبفساده تفسد اللغة برُمَّتِها.

وبشأن التطوُّر اللُّغوي يرفض الكثيرون أن تكون اللغة العربية ممَّا أصابها التطوُّر والتغيير، ولهؤلاء في التصحيح اللُّغوي مواقف لا تُنكَر، وليس غريبًا أن يشترط اللغويون والنحاة منذ القديم للاحتجاج باللغة شروطًا تتحدَّد بالزمان والمكان، وبالتالي سبق أن رفض هؤلاء المحدث والمولَّد وهو كثيرٌ لا يُحصى في لغتنا؛ لأنَّه لم يرد في لغة الاحتجاج، وذلك بالرغم من أنَّ هذا المحدث أمرٌ طبيعيٌّ، وممَّا تحتاجه اللُّغة للتعبير عن كلِّ المستجدَّات الحياتية.

 

وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ التغيرات التي طرأت على العربيَّة خلال قرون عديدة تفصلنا عن عصر الاحتجاج - كثيرة ولا شكَّ، ويتجلى التغيير في عصرنا الراهن في باب الأصوات، ومن ذلك نطق العرب العربية الفصحى بلهجاتها المحليَّة، ويكفي أن نُشير في هذا الصدد إلى موضع النبر في الكلمات المختلفة، ويشي النبر باختلاف البلدان والجهات ما يجعلك تُميز بين الناطق المغربي والمشرقي والخليجي مثلًا، مثلما نشهد تغيرات في الأصوات أو الحروف، فتنطق الثاء تاءً في بعض البلدان، وسينًا في بعض البلدان الأخرى، وتنطق القاف همزة، أو كافًا مجهورة شديدة (القاف البدويَّة)، أو مهموسة في بعض المناطق الأخرى، وتنطق الجيم قافًا مجهورة شديدة أيضًا، والضاد والذال زايًا وغيرها، هذا فضلًا عن الاختلاف في التفخيم والترقيق؛ أي: تفخيم ما هو مُرقَّق، وترقيق ما هو مُفخَّم.

 

وأما التغير في مستوى الوحدات المعجمية فحدِّث ولا حرج، وذلك بإنشاء المئات بل الألوف من الكلمات الجديدة، سواء عن طريق التوليد، أو الاشتقاق، أو التعريب، أو المجاز والانزياح الدلاليِّ أو غيرها.

 

ويبقى التغيير في المستوى التركيبي من أضعف ما هو موجود، وليست العربية وحدَها في هذا الشأن.

 

ويُعتبر التغيير أو التطوُّر في العربية عمومًا، أضعفَ بكثير عمَّا هو موجود في اللُّغات الأخرى، ولعلَّ مردَّ هذا أنَّ العربيَّة لغة القرآن الكريم، والقرآن كتاب محفوظ من قِبَل الله تعالى، وبالتالي فإنَّ لغته التي نزل بها محفوظة ولا ريبَ.

 

ومن باب المقارنة في هذا الشأن نُلاحظ أنَّ العرب والمسلمين يتلون الآيات القرآنيَّة يوميًّا، ويسمعون الأحاديث الشائعة، ويقرؤون فنون الأدب القديم من شعر ونثر، وهم يفصلهم عن تاريخ هذه النصوص ما يُقارب الخمسة عشر قرنًا، في الوقت الذي لا يستطيع فيه الفرنسيُّ أو الإنجليزيُّ مثلًا قراءة نصوص ترجع إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر الميلادي.

 

أن نحكم على التطوُّر اللُّغويِّ أو التغيير في العربية بأنه يتعلَّق وفي كلِّ الحالات بالتصحيح اللُّغويِّ وباللَّحْن، أو الخطأ والصواب، فهذا أمرٌ آخر قد يرجع إلى الوِجدان، لكنَّه لا يرجع إلى النظرة العلمية الموضوعيَّة، ولا بُدَّ في هذا الشأن من التمييز بين اللحن أو الخطأ من جهة، والتطوُّر اللُّغويِّ من جهة ثانية، باعتبار أن الأمر الأوَّل فرديٌّ، في حين أنَّ الثاني جماعيٌّ، وأنَّ الأوَّل يمكن تداركُه في حين أنَّ الثاني يفرِض نفسه بلا جدال.


 

x

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كيف تعمل الطاقة الشمسية؟ ولماذا يحتاجها العالم؟

كيف تعمل الطاقة الشمسية؟ ولماذا يحتاجها العالم؟ أصبح   الطلب على الطاقة   في العالم ينمو بسرعة، بسبب الانفجار السكاني والتقدم التكنولوجي...